فلسطين أون لاين

غزة تختنق بالنفايات وتغرق بالمياه العادمة

...
صورة من الأرشيف
غزة/ مريم الشوبكي:

بالقرب من مكبٍّ عشوائي للنفايات، كانت طفلتان بشَعرٍ أشقر مميّز تلهوان، وتقفزان فوق بركة مياه صغيرة تجمّعت في منخفض ترابي، وتضحكان بشدة، غير مدركتين أن هذه المياه ليست أمطارًا عادية، بل مزيجًا من مياه الصرف الصحي ونفايات سائلة. ضحكاتهما العالية قد تتحول بعد أيام قليلة إلى دموع، حين يبدأ المرض بالظهور.

في الجهة المقابلة، كان عدد من الفتية يحملون على ظهورهم أكياس دقيق فارغة، ينبشون في جبلٍ من القمامة المتراكمة قرب خيامهم، بحثًا عن الورق والبلاستيك والخشب. مشهد يقشعر له البدن في مكان لا يملك سكانه خيارًا آخر؛ فلا مكبّات رسمية، ولا مواقع آمنة لترحيل النفايات.

أكوام منتشرة

لم تعد مكبّات النفايات محصورة في أطراف المدن أو المناطق البعيدة، بل باتت أكوام القمامة تتكدّس في كل شارع وزقاق، وبين الخيام، وعلى مقربة من المدارس المؤقتة ومراكز الإيواء. وبالتوازي، تجري مياه الصرف الصحي في الشوارع والطرقات العامة وأمام مداخل المنازل والخيام دون أي معالجة، لتختلط بالنفايات الصلبة وتتحول إلى بؤر مفتوحة للتلوث وانتشار الأمراض، خاصة في المناطق المنخفضة التي تغمرها المياه العادمة مع كل منخفض جوي.

يوضح الخبير البيئي سعيد الكحلوت أن ارتفاع المكبّات العشوائية وصل إلى مستويات خطيرة، مشيرًا إلى أن أي سيول أو فيضانات محتملة قد تشكّل تهديدًا مباشرًا لحياة المواطنين القاطنين أسفلها، لا سيما في المناطق المكتظة بالنازحين.

ويؤكد الكحلوت لـ«فلسطين» أن هذه المكبّات غير مصممة هندسيًا للتعامل مع النفايات، ولا تحتوي على طبقات عزل تحمي التربة والخزان الجوفي من العصارة السامة (الليتشيت)، وهي سوائل عالية التركيز السمي تتسرب من النفايات.

عصارة سامة

وبحسب الكحلوت، تسير العصارة الناتجة عن النفايات بين الخيام والمساكن المؤقتة لغياب أنظمة التجميع، ومع التشققات التي خلّفها القصف في طبقات الأرض، تتسرب مباشرة إلى الخزان الجوفي، وهو المصدر الوحيد لمياه الشرب في قطاع غزة، محمّلة بمواد شديدة السمية، في ظل استمرار التخلص من النفايات الطبية والخطرة داخل هذه المكبّات.

أدى تراكم النفايات إلى انتشار واسع للحشرات، كالذباب والبعوض، إضافة إلى القوارض والجرذان، التي تُعد من أخطر نواقل الأمراض. ويشير الكحلوت إلى تسجيل حالات عضّ قوارض لأطفال داخل الخيام، في بيئة تفتقر إلى أبسط مقومات الحماية، وسط منع إدخال مواد مكافحة فعالة، ووجود بدائل محدودة التأثير داخل القطاع.

خلل بيئي

ويوضح أن خللًا أصاب التوازن البيئي، تمثل في انتشار القوارض وتراجع أعداد القطط، ما فاقم احتمالات نقل الأمراض، في وقت يعيش فيه المواطنون داخل خيام لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، ولا تحمي من الحشرات ونواقل العدوى.

ويحذّر الخبير البيئي من أن ظروف النزوح، وسوء التغذية، وارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض، أدت إلى انخفاض شديد في المناعة، خاصة لدى الأطفال وكبار السن، ما يجعل أي وباء محتمل خطرًا مضاعفًا في بيئة مكتظة ومفتوحة على التلوث.

ويضيف أن الروائح الكريهة، واحتمالات اشتعال النفايات، إلى جانب الرماد وبقايا المتفجرات وحرق البلاستيك، فاقمت أزمات الجهاز التنفسي، حيث تجاوز عدد المصابين أكثر من مليون و800 ألف حالة، مع تزايد معاناة المرضى في ظل انهيار المنظومة الصحية.

صرف مشلول

أما أزمة الصرف الصحي، فيشير الكحلوت إلى أن الحرب أدت إلى تحييد جميع المحطات المركزية عن العمل، وتدمير ما بين 85 و90 في المئة من شبكات الصرف الصحي. ونتيجة لذلك، تُصرف المياه العادمة الخام في الشوارع والطرقات، أو تُضخ إلى البحر، أو تُجمع في حفر امتصاصية قرب الخيام، ما أدى إلى تلوث التربة والمياه الجوفية.

وساهم هذا الانهيار في انتشار واسع للأمراض المنقولة بالمياه، حيث سُجّل نحو 150 ألف حالة يرقان، و25 ألف حالة إسهال دموي، وأكثر من 800 ألف حالة إسهال مائي، إضافة إلى أمراض جلدية والتهابات في العيون والتهاب السحايا، وفق الخبير البيئي.

وبحسب بيانات بلدية غزة، تتراكم آلاف الأطنان من النفايات الصلبة يوميًا دون ترحيل منتظم، نتيجة تدمير الآليات، ونفاد الوقود، ومنع إدخال معدات جديدة أو قطع غيار. واضطرت البلديات إلى إنشاء مكبّات عشوائية داخل الأحياء السكنية، في ظل عجز كامل عن نقل النفايات إلى مكبّات مركزية.

تحذير أممي

وتحذّر منظمات أممية عاملة في قطاع المياه والصرف الصحي من أن استمرار تراكم النفايات وتسرب المياه العادمة يهدد الخزان الجوفي، ويضاعف المخاطر الصحية، لا سيما في ظل الكثافة السكانية العالية وسوء التغذية، معتبرة أن الأزمة باتت من أخطر التحديات الإنسانية غير المرئية في القطاع.

وعن الحلول، يشير الكحلوت إلى مشروع تنفذه الأمم المتحدة الإنمائية (UNDP) لنقل بعض المكبّات الضخمة، خاصة القريبة من تجمعات النازحين كسوق فراس، إلى مواقع أبعد مثل منطقة أبو جراد، معتبرًا أن العودة إلى ترحيل النفايات نحو مكبّي جحر الديك والفخاري كفيلة بحل نحو 70% من المشكلة.

غير أن هذه الحلول تبقى محدودة في ظل نقص الإمكانيات والمعدات لدى البلديات، واستمرار منع إدخال الآليات وقطع الغيار، سواء لمعالجة أزمة النفايات أو الصرف الصحي، ما يبقي الكارثة مفتوحة على مزيد من التدهور.

في غزة، لا تتكدّس النفايات في الشوارع فحسب، بل تتراكم معها مخاطر المرض والموت، فيما يعيش الناس داخل بيئة ملوّثة، بانتظار حلٍّ يعيد لهم حقهم الأساسي في حياة آمنة، لا تهددها القمامة والمياه العادمة كل يوم.

المصدر / فلسطين أون لاين